بين "
برج" خليفة و"
تاور المدينة " : لغتنا العربية في مأزق
سليمان الهتلاندعني أكتبها هنا "
من الآخر" وأعطيك "
زبدة" رأيي:
إن استمر تعاطينا مع "
حالة" اللغة العربية الراهنة بهذا التماهي والتردد والاستهتار
فحتماً ستجد أجيالنا القادمة نفسها تنتمي للغة باهتة تائهة رثة هشة
اللغة العربية تعيش اليوم حالة وهن تزداد سوءاً كل يوم
ولابد أن تقودها إلى حالة من الضعف أقرب للموات.
وفي ظني أن أكبر خصوم اللغة العربية اليوم هم فئتان من أبنائها:
فئة تظن أن اللغة العربية عائق تنموي وحضاري
ولا سبيل للعرب إن أرادوا التقدم
سوى الاعتماد المطلق على اللغة الإنجليزية في قراءاتهم ومخاطباتهم وتعاملاتهم.
وفئة متحمسة للدفاع بجهالة عن اللغة العربية
فتنسف نظريات تطور اللغة وأهمية تعلم لغات أجنبية
وإمكانية المحافظة على اللغة الأم مع انفتاح إيجابي على اللغات العالمية الأخرى
قبل أيام، كنت في زيارة قصيرة لمدينة هانوفر الألمانية
ذهلت من حماس الشباب الألماني الذين قابلتهم في الأسواق
والمكتبات والجامعات للغتهم الأم
كان بعضهم يجيد الإنجليزية لكنه يبدي امتعاضه من اضطراره لأن يتحدث معي بها
إنهم من أولئك الذين نطلق عليهم اليوم جيل "
الفيسبوك"
ومع ذلك فولاؤهم للغتهم الأم يدفعهم لتبادل الرسائل الهاتفية وكتابة رسائل الإيميل
وعلاقات
الفيسبوك والمدونات بالألمانية
لم أشعر مع من قابلت في
هانفور أن القدرة على تحدث الإنجليزية معيار للتفوق والمعرفة
وحينما زرت واحدة من أكبر المكتبات التجارية في المدينة سألت عن قسم الكتب الإنجليزية
فلم أجد سوى رفوف قليلة لا يزيد عدد عناوين كتبها عن عناوين مكتبتي المنزلية الصغيرة
إنه الاعتزاز باللغة الأمالتي لم تكن معطلاً للاقتصاد الألماني في أن يكون من أكبر الاقتصادات العالمية
اعتزاز لم يعق الألمان عن الاستمتاع بأفلام هوليوود المدبلجة إلى الألمانية حال عرضها في أمريكا
ولم يؤخر ترجمة أحدث الإصدارات العالمية إلى الألمانية
ولم يقلل من حضور الألمان في أهم الفعاليات العالمية
في المقابل، كنت على العشاء في بيت صديق عربي ولم يكن "
أجنبياً" بيننا
ومع ذلك أمطرني أحدهم بأسئلة متحذلقة بإنجليزية مكسرة
كما لو كنت في جلسة امتحان لقدرتي على التخاطب بالإنجليزية
حاولت جاهداً تذكيره بأن بيننا من لا يجيد الإنجليزية ومن غير الأدب أن نتحدث بالإنجليزية
ونحن غير مضطرين فما فاد حتى تدخل مضيفنا بقرار صارم
ألزم الجميع باحترام مجلسه والحديث بالعربية
في العالم العربي اليوم وبشكل أخص في الخليج شباب يتحدث الإنجليزية بلهجات أمريكية محلية
على الرغم من أن أقدامهم لم تطأ يوماً أرضاً أمريكية
وهم في الوقت نفسه مندمجون مع الثقافة التي تحملها تلك اللغة، بمفرداتها ومفاهيمها
وأبعادها الاجتماعية والقيمية
عبر الأفلام والمسلسلات الكوميدية وصداقات النت
إنهم يعيشون "
سطحياً" بيننا بأجسادهم في العالم العربي
لكنهم يعيشون "
فكرياً" و"
قيمياً" وربما "
روحياً" في تلك الثقافة التي يتحدثون لغتها
إنها تكنولوجيا الاتصال التي تقربهم أكثر من اللغة الإنجليزية بثقافاتها
فيما إهمالنا أو قل تخبطنا في التعامل مع واقع اللغة العربية اليوم
يسهم في توسيع الفجوة بين شبابنا ولغتهم الأم...
أو قل: لغتهم القديمة
وهنا اعتراف: فبقدر ما دعوت وما زلت إلى انفتاح جاد على معطيات العولمة الراهنة من تقنية وفكر وثقافة
إلا أنني بدأت أدرك أن انفتاحاً على العالم بلا ثقة حقيقية في الذات
ومن غير مقومات حضارية محلية
سيقود إلى حالة من "
الاستلاب" الحضاري، اندفاع نحو التقليد، على علاته،
أو انكفاء على الذات ورفض لكل نتاج الآخر
وفي كلتا الحالتين نحن نخسر
واليوم تأمل حال لغتك العربية الأم ثم تلمس الخطر المحدق بها من كل صوب
كم من بيت عربي (
خاصة في الخليج)
فيه أطفال منقسمون في حديثهم مع أهلهم بين لغتين أو أكثر؟
كم من أسرة عربية تعاني اليوم من غربة أبنائها المرتبطين بعيونهم وأصابعهم وتفكيرهم
بأجهزة صغيرة بين أيديهم
يتواصلون عبرها
روحياً وثقافياً في أغلب أوقات يقظتهم مع البعيد جداً
دون أي اعتبار لمن حولهم داخل منزلهم؟
ولكن هل نلوم من نشأ في عصر الإنترنت والفضائيات
وعنده مدخل على ثقافة متجددة تخاطب عقله وعواطفه وأحلامه؟
كيف لي أن ألومهم في الوقت الذي تشكل فيه نسبة المحتوى العربي على الإنترنت
أقل من واحد في المئة؟
وعلى ضآلة النسبة تلك فإن الغالبية من هذا المحتوى العربي معلومات مضللة
أو حشو كلام أو محتوى ضار للعقل ويسم البدن
هذه الغربة التي قد تعيشها لغتنا العربية
مع تقدم تقنية الاتصال وزيادة فرص الشباب العربي للتعامل مع الإنترنت والتقنيات الحديثة
ستعزل اللغة العربية، قليلاً قليلاً، عن المشهد الحضاري العالمي في المستقبل القريب
وإن لم تنهض المؤسسات الثقافية والإعلامية العربية الرصينة مدعومة بميزانيات ضخمة
بمشاريع جادة لزيادة نسبة المحتوى العربي على الإنترنت
مع فهم حقيقي للغة العصر وطريقة تفكير الأجيال الجديدة من شبابنا
فستزداد القطيعة بين لغتنا العربية وأجيالنا القادمة
وإن لم يقتنع شبابنا بأن لغتهم الأم هي أساس اعتزازهم بأنفسهم وبهويتهم
كما يفعل أقرانهم الألمان والفرنسيون واليابانيون
وإلا فأبشر بمزيد من الهزائم الحضارية والانتكاسات الثقافية
ومسألة إعادة إحياء اللغة العربية لتواكب عصرها، بثقافته وتقنياته وظروفه
هي في رأيي مسألة "
حياة أو موت" حضارية تبدأ من أسماء شوارعنا
وطريقة كتابة اللوحات الإرشادية على طرقنا
ولا تنتهي بضخ استثمارات ضخمة لزيادة المحتوى العربي على الإنترنت
ودعم مشاريع الترجمة الجادة في عالمنا العربي
وتلك مهمة ضخمة تحتاج إلى تكامل في الجهد وجدية في المنطلق وعصرية في التعاطي
على شارع الشيخ زايد قبل أيام
نظرت يميناً فلفت انتباهي مسمى "
برج خليفة" معانقاً سماء دبي
وقبله "
برج العرب"، وسألت:
كيف نجحت دبي في إدخال كلمة "
برج" العربية إلى قاموس اللغات العالمية؟
التفت شمالاً وإذا بلوحة جديدة تصدم نظري وهي تعانق "
برجاً" جديدا كتب عليه: "
تاور المدينة"
لماذا استبدل صاحب ذلك المبنى الأنيق كلمة "
برج" بـ"
تاور"؟
هذا مثال فقط وإلا فما من مدينة عربية
إلا وبها عشرات الأمثلة على تخبطنا الثقافي وبأشكال متعددة
يا لها من مفارقة
ومع ذلك...كم سيكون سهلاً لو أن مشكلة اللغة العربية تقتصر فقط على تسميتنا للأبراج والشركات والمشاريع
في مدننا العربية
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]صحيفة الوطن السعودية
ولكم خالص التحية وفائق الاحترام